لشيخ الإسلام ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين :
أما بعد فقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصة شعيب النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضع من كتابه وإرساله إلى أهل مدين , وقال في موضع آخر : " كذب أصحاب الأيكة المرسلين " (سورة الشعراء 176 ) فأكثر الناس يقولون : إنهم أهل مدين ومن الناس من يجعلها قصتين .
وذكر في قصة موسى ـ عليه السلام ـ أنه " لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما .." (الآية 23من سورة القصص ) إلى آخر القصة .
فموسى عليه السلام قضى أكمل الأجلين ولم يذكر عن هذا الشيخ أنه كان شعيبا , ولا أنه كان نبيا ولا عند أهل الكتابين أنه كان نبيا , ولا نُقل عن أحد من الصحابة أن هذا الشيخ الذي صاهر موسى كان شعيبا النبي , لا عن ابن عباس ولا غيره , بل المنقول عن الصحابة أنه لم يكن هو شعيب .
قال سنيد بن داود شيخ البخاري في تفسيره بإسناده عن ابن عباس :
قال اسمه : يثرى , قال حجاج : وقال غيره : يثرون , وعن شعيب الجبائي أنه قال : اسم الجاريتين ليا وصغوره , وامرأة موسى صغوره ابنة يثرون كاهن مدين , والكاهن الحبر , وفي رواية عن ابن عباس أن اسمه يثرون أو يثرى.
وقال ابن جرير : اسم إحدى الجاريتين ليا , ويقال شرفا , والأخرى صغورة , وقال أيضا : وأما أبوهما فمختلف في اسمه , فقال بعضهم : اسمه يثرون , وقال ابن مسعود : الذي استأجر موسى ابن أخي شعيب يثرون , وقال أبو عبيدة : هو يثرون ابن أخي شعيب النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : اسمه يثرى, وهو منقول عن ابن عباس , وقال الحسن : يقولون هو شعيب النبي , لا ولكنه سيد أهل الماء يومئذ , قال ابن جرير : وهذا لا يدرك علمه إلا بخبر عن معصوم , ولا خبر في ذلك .
وقيل : اسمه أثرون , فهذه كتب التفسير التي تروى بالأسانيد المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لم يذكر فيها عن أحد أنه شعيب النبي صلى الله عليه وسلم , ولكن نقلوا بالأسانيد الثابتة عن الحسن البصري أنه قال : يقولون إنه شعيب , وليس بشعيب , ولكنه سيد الماء يومئذ .
فالحسن يذكر أنه شعيب عمن لا يعرف , ويرد عليهم ذلك , ويقول : ليس هو شعيب , وإن كان الثعلبي قد ذكر أنه شعيب فلا يلتفت إلى قوله , فإنه ينقل الغث والسمين , فمن جزم بأنه شعيب النبي فقد قال ما ليس له به علم , وما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم , ولا عن الصحابة , ولا عمن يحتج بقوله من علماء المسلمين , وخالف في ذلك ما ثبت عن ابن عباس , والحسن البصري مع مخالفته أيضا لأهل الكتابين , فإنهم متفقون على أنه ليس هو شعيب النبي , فإن ما في التوراة التي عند اليهود والإنجيل الذي عند النصارى أن اسمه يثرون , وليس لشعيب النبي عندهم ذكر في التوراة .
وقد ذكر غير واحد من العلماء أن شعيبا كان عربيا , بل قد روي عن أبي ذر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ رواه أبو حاتم وغيره ـ أن شعيبا كان عربيا , وكذلك هود وصالح , وموسى كان عبرانيا فلم يكن يعرف لسانه.
وظاهر القرآن يدل على مخاطبة موسى للمرأتين وأبيهما بغير ترجمان, وإنما شبهة من ظن ذلك أنه وجد في القرآن قصة شعيب وإرساله إلى أهل مدين , ووجد في القرآن مجيء موسى إلى مدين ومصاهرته لهذا , فظن أنه هو .
والقرآن يدل أن الله أهلك قوم شعيب بالظلة , فحينئذ لم يبق في مدين من قوم شعيب أحد , وشعيب لا يقيم بقريه ليس بها أحد , وقد ذكروا أن الأنبياء كانوا إذا هلكت أممهم ذهبوا إلى مكة فأقاموا بها إلى الموت, كما ذكر أن قبر شعيب بمكة , وقبر هود بمكة , وكذلك غيرهما .
وموسى لما جاء إلى مدين كانت معمورة بهذا الشيخ الذي صاهره , ولم يكن هؤلاء قوم شعيب المذكورين في القرآن , بل ومن قال : إنه كان ابن أخي شعيب أو ابن عمه , لم ينقل ذلك عن ثبت , والنقل الثابت عن ابن عباس لا يعارض بمثل قول هؤلاء , وما يذكرونه في عصا موسى , وأن شعيبا أعطاه إياها , وقيل أعطاه إياها هذا الشيخ , وقيل : جبريل , وكل ذلك لا يثبت .
وعن أبي بكر ـ أظنه الهذلي ـ قال : سألت عكرمة عن عصا موسى قال هي عصا خرج بها آدم من الجنة , ثم قبضها بعد ذلك جبريل , فلقي بها موسى ليلا فدفعها إليه , وقال السدي في تفسيره المعروف : أمر أبو المرأتين ابنته أن يأتي موسى بعصا , وكانت تلك العصا عصا استودعها ملك في صورة رجل إلى آخر القصة , استودعه إياها ملك في سورة رجل وأن حماه خاصمه , وحكما بينهما رجلا , وأن موسى أطاق حملها دون حميه , وذكر عن موسى أنه أحق بالوفاء من حميه .
ولو كان هذا هو شعيبا النبي لم ينازع موسى , ولم يندم على إعطائه إياها , ولم يحاكمه , ولم يكن موسى قبل أن ينبأ أحق بالوفاء منه , فإن شعيبا كان نبيا وموسى لم يكن نبيا , فلم يكن موسى قبل أن ينبأ أكمل من نبي , وما ذكره زيد من أنه كان يعرف أن موسى نبي إن كان ثابتا فالأحبار والرهبان كانت عندهم علامات الأنبياء , وكانوا يخبرون بأخبارهم قبل أن يبعثوا , والله سبحانه أعلم .
وأما شياع كون حمى موسى شعيبا النبي عند كثير من الناس الذين لا خبرة لهم بحقائق العلم ودلائله وطرقه السمعية والعقلية فهذا مما لا يغتر به عاقل , فإن غاية مثل ذلك أن يكون منقولا عن بعض المنتسبين إلى العلم , وقد خالفه غيره من أهل العلم , وقول العالم الذي يخالفه نظيره ليس حجة , بل يجب رد ما تنازعا فيه إلى الأدلة .
ومثال ذلك ما ذكره بعضهم أو كثير منهم من أن الرسل المذكورين في سورة يس هم من حواريي المسيح عليه السلام , وأن حبيب النجار آمن بهم وهذا أمر باطل عند أجلاء علماء المسلمين , وعند أهل الكتاب فإن الله قد أخبر عن هذه القرية التي جاءها المرسلون أنه قد أهلك أهلها , فقال تعالى : " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون " الآية 29
وأنطاكية لما جاءها اثنان من الحواريين بعد رفع المسيح آمنوا بهما , وهي أول مدينة اتبعت المسيح , ولم يهلكهم الله بعد المسيح باتفاق المسلمين وأهل الكتاب , فكيف يجوز أن يقال هؤلاء هم رسل المسيح .
وأيضا فإن الذين أتوهم كانا اثنين من الحواريين , وأهل الكتاب معترفون بذلك , ولم يكن حبيب النجار موجودا حينئذ , بل هؤلاء رسل أرسلهم الله قبل المسيح , وأهلك أهل تلك القرية , وقد قيل : إنها أنطاكية , وآمن حبيب بأولئك الرسل ثم بعد هذا عمرت أنطاكية , وجاءتهم رسل المسيح بعد ذلك .
والحواريون ليسوا رسل الله عند المسلمين , بل هم رسل المسيح , كالصحابة الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسلهم إلى الملوك , ومن زعم أن هؤلاء حواريون فقد جعل للنصارى حجة لا يحسن أن يجيب عنها , وقد بسطنا ذلك في الرد على النصارى , وبينا أن الحواريين لم يكونوا رسلا , فإن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل إبراهيم وموسى , وقد يفضلونهم على إبراهيم وموسى , وهذا كفر عند المسلمين , وقد بينا ضلال النصارى في ذلك منقول للافاده